علم نفس تطوري

لماذا عظماء البشر من الأموات؟ خارطة الأنا

الإنسان كائن اجتماعي يعتمد في بقائه على التعاون والبقاء ضمن المجموعة. من أشد العقوبات على الإنسان هي تحييده اجتماعياً وفصله عن المجموعة ولهذا السبب ابتكرنا عقوبة السجن. إذاً بحكم أن الإنسان كائن اجتماعي يعيش ضمن مجموعات هذا استوجب أن يطور الإنسان وسائل للتواصل وأدوات لتحديد موقعه ضمن الهيكلية الاجتماعية في المجتمع. تحديد الموقع ضمن المجموعة مهم جداً لتجنب الصراعات الدموية بين الأطراف المتصارعة حيث يتمكن الجميع من تحديد مواقعهم عبر وسائل لا عنفيه.

بشكل عام تتجنب الصراعات الدموية غير الضرورية هو أمر محبذ لأن نتيجة الصراع غير محسومة لكلا الطرفين. لهذا يلجئ أفراد القطيع لوسائل لا عنفيه لتحديد من هو سيد القطيع. في حال لم يتم حسم الموضوع ضمن الوسائل الا عنفيه، يلجأ حينها الأفراد المتنافسون إلى الصراعات المباشرة.

في النهاية وجود أي كائن على قيد الحياة هو دليل للآخرين على أنه قويّ وأنه انتصر في جميع صراعاته السابقة والذي يعتبر رادعاً للآخرين من الدخول معه في صراعات دموية، لذلك نجد أن الصراعات الدموية هي آخر الخيارات. مثلاً ذكور الفيلة تتقاتل فيما بينها لتحدد من هو سيد القطيع (Alpha Male).

الطيور (الاجتماعية) تحدد قائدها على أساس من يغرد بصوت أعلى. لا أريد التعمق أكثر في هذه الآليات إلّا أن جميع الكائنات الاجتماعية تتبع وسائل مختلفة لتضمن بقاء المجموعة ضمن هيكلية هرمية بأقل الأضرار الجسدية للجميع.

هذا البحث لا يتعلق بالانا المتعارف عليها من قبل عالم علم النفس “فرويد” وإنما التقييم الذاتي للانا الشخصية. جميعنا يقارن نفسه مع الآخرين ويضع نفسه والآخرين على خارطة اجتماعيه أسميها “خارطة الأنا”.

سأكمل هذا البحث بإسقاطه على الإنسان الحديث لسهولة ذكر أمثلة من الواقع إلاّ أن هذه الفرضية صحيحة بالنسبة لجميع الأحياء (تتفاوت على أساس القدرة العقلية للكائنات). خارطة الأنا مهمة جداً في تحديد موقع الشخص على الخارطة الاجتماعية الهرمية للقطيع. المعايير المؤثرة على خارطة الأنا تتعدد من معايير فيزيائية (مظهر الشخص / قوة الشخص/ الاستقطاب الجنسي له) إلى عوامل مادية (الحالة المادية /عمله / ممتلكاته) إلى عوامل ثقافية وفكرية (كيف يعبر الشخص عن معارفه وماهي مصداقية هذه المعارف). كل معيار من هذه المعايير له خارطة مستقلة في تحديد أولويته على الخارطة.

-مثلاً:

المظهر الفيزيائي للجسم، إذا كان الشخص ينافس على موقع مرموق على خارطة اجتماعية تهتم بالمظهر فإن المظهر يأخذ الأولوية في التقييم على حساب التقييم المادي والتقييم الفكري وإن كان الموقع موقعا فكرياً فتتغير الأولوية للمعايير الفكرية وهكذا.

-مثلاً:

ليتواصل رجل الدين أنه تقي من الناحية الفيزيائية فإن المتعارف عليه اليوم أن يلقي بلحيته ليعلن للآخرين أنه ينافس على موقع في خارطة الأنا الاجتماعية الدينية (هذا لا يعني أن هذا يكفي لكنها الخطوة الأولى).

إذا أراد العازف إعلان أنه موسيقي جيد فعليه اتخاذ إجراءات فيزيائية مثل تطويل شعره لكي يعلن للآخرين أنه شخص له موقع على خارطة الأنا الموسيقية من حيث الشكل.

إذاً المظهر الفيزيائي يعد أول مرحلة من مراحل تحديد الأنا على الخارطة. الحالة المادية لها تقييمها حسب الخارطة التي ينافس عليها الشخص فمثلا في عالم الأعمال والاستثمارات يكون هذا المعيار أهم من الشكل الفيزيائي للشخص. كل مجال له معايره الخاصة به والتي تعطي إشارات للآخرين بأن هذا الشخص له قيمة (س) فيما يتعلق بالمحور الذي يتم التقييم والصراع عليه.

السؤال لماذا لا نقدّر الاشخاص إلا بعد وفاتهم؟

بما أننا في حالة صراع مستمرة على الهيكلية الاجتماعية نحن لا نعطي نقاطا مجانية للأشخاص الذين يمكن أن يشكلوا خطرا مباشرا على موقعنا في الخارطة.

كلما ابتعد الأشخاص عن خارطة الأنا التابعة لنا كلما سهل علينا قبول إنجازاتهم وإعطائهم النقاط التي من شأنها رفعهم على الخارطة. طالما أن موقعهم لا يشكل تهديداً لموقعنا. في بعض الأحيان يكون من مصلحتنا رفع شأن أحد ما لأن هذا ينعكس بشكل إيجابي علينا فنقوم بإعطاء نقاط مجانية من شأنها تعزيز الموقع (كما يحدث في السياسة). هذا السياسي بطل (لأن رفع شأنه يرفع من شأني).

هذا هو سبب أننا لا نقبل بإنجازات أصدقائنا المقربين ونعمل على تبخيس قيمتها إن كانت فكرية أو مادية إلى أن يتجاوز أصدقاؤنا مرحلة النقطة الحرجة التي لا نستطيع بعدها إحباطهم.

لهذا السبب نقوم نحن بالتمويه لإنجازاتنا ونخفيها أمام من هم على خارطة الأنا التابعة لنا كآلية لحماية أنفسنا. (نسميها مخافة من العين) أو (التواضع). عند موت الشخص وتبدد الخطر الذي يشكله علينا وعلى موقعنا على الخارطة نجد أن الجميع يكسر الحواجز ويمدح إنجازات الشخص دون خوف من أن يرفع ذلك من شأن الشخص. لهذا السبب نجد أن غالبية عظماء البشر هم من الأموات.

 

 

 

مصطفى عابدين

مؤسس ومدير محتوى موقع علومي. باحث مهتم بالعلوم، أسعى من خلال هذا الموقع إلى المساهمة في إثراء المحتوى العلميّ العربيّ على الإنترنت بمقالات أصليّة مبسّطة، تزوّد القارئ غير المختصّ بالأساس العلميّ الذي يحتاجه لمتابعة آخر المستجدّات والأخبار العلميّة، بعيداً عن الترجمة التي في بعض الأحيان تُفقِد المحتوى العلميّ مضمونه.

تعليق واحد

انقر هنا لتضع تعليق

تعليق